الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)} هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة: إلاّ ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} إلى قوله {وكان الله غفوراً رحيماً} وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله {ولا نشوراً} فهو مكي. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليه ومجازيهم على ذلك، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عن النقائص كثير الخير، ومن خيره أنه {نزل الفرقان} على رسوله منذراً لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذير من عقابه. و{تبارك} تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر. وقال الطرماح: تباركت لا معط لشيء منعته *** وليس لما أعطيت يا رب مانع قال ابن عباس: لم يزل ولا يزول. وقال الخليل: تمجد. وقال الضحاك: تعظم. وحكى الأصمعي تبارك عليكم من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك، أي تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات. وقال ابن عباس أيضاً والحسن والنخعي: هو من البركة وهي التزايد في الخير من قبله، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر، وعلى هذا يكون صفة فعل وجاء الفعل مسنداً إلى {الذي} وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه تعالى هو الذي نزل الفرقان فقد قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب الدليل، وإن كانوا منكرين لذلك. وتقدّم في آل عمران لمَ سمي القرآن فرقاناً. وقرأ الجمهور {على عبده} وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن الزبير على عباده أي الرسول وأمته كما قال {لقد أنزلنا إليكم} {وما أنزل إلينا} ويبعد أن يراد بالقرآن الكتب المنزلة، وبعبده من نزلت عليهم فيكون اسم جنس كقوله {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} والضمير في {ليكون}. قال ابن زيد: عائد على {عبده} ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى كقوله {إنّا كنا منذرين} والظاهر أن {نذيراً} بمعن منذر. وجوز أن يكون مصدراً بمعنى لإنذر كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه {فكيف كان عذابي ونذر} و{للعالمين} عام للإنس والجن، ممن عاصره أو جاء بعده وهذا معلوم من الحديث المتواتر وظواهر الآيات. وقرأ ابن الزبير {للعالمين} للجن والإنس وهو تفسير {للعالمين}. ولما سبق في أواخر السورة ألا إن لله ما في السموات والأرض فكان إخباراً بأن ما فيهما ملك له، أخبر هنا أنه له ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما، فاجتمع له الملك والملك لهما. ولما فيهما، والذي مقطوع للمدح رفعاً أو نصباً أو نعت أو بد من {الذي نزل} وما بعد {نزل} من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلاً بين النعت أو البدل ومتبوعه. {ولم يتخذ ولداً} الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحداً منزلة الولد. وقيل: المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه. وفي ذلك رد على مشركي قريش وعلى النصارى واليهود الناسبين لله الولد. {ولم يكن له شريك في الملك} تأكيد لقوله {له ملك السموات والأرض} ورد على من جعل لله شريكاً. {وخلق كل شيء} عام في خلق الذوات وأفعالها. قيل: وفي الكلام حذف تقديره {وخلق كل شيء} مما يصح خلقه لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى. ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن من قال: أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم فكذلك لم يدخل في عموم {وخلق كل شيء} ذاته تعالى ولا صفاته القديمة. {فقدره تقديراً} إن كان الخلق بمعنى التقدير، فكيف جاء {فقدره} إذ يصير المعنى وقدر كل شيء يقدره {تقديراً}. فقال الزمخشري: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له، أو سمي إحداث الله خلقاً لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت. فإذا قيل: خلق الله كذا فهو بمنزلة إحداث الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده متفاوتاً. وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه {فقدره} للبقاء إلى أمد معلوم. وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والاتقان انتهى. {واتخذوا من دونه آلهة} الضمير في {واتخذوا} عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله {ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك} دلالة على ذلك لم ينف إلاّ وقد قيل به. وقال الكرماني: الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله {للعالمين}. وقيل: لفظ {نذيراً} ينبئ عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في {واتخذوا} كل من ادعى إلهاً غير الله، ولا يختص ذلك بعباد الأوثان وعباد الكواكب. وقال القاضي: يبعد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع. والأقرب أن المراد به عبَدة الأصنام، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى. ولا يلزم ما قال لأن {واتخذوا} جمع و{آلهة} جمع، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد بالفرد، ولا يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرج معبود النصارى في لفظ {آلهة}. ثم وصف الآلهة بانتفاء إنشائهم شيئاً من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية، ثم بأنهم مخلوقون لله ذاتاً أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص، وهذا أبلغ في الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز. ومنه قول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبعض *** القوم يخلق ثم لا يفري وقال الزمخشري: الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله {وتخلقون إفكاً} والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجز أبَيْنَ من عجزهم، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئاً وهم يفتعلون لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير {ولا يملكون لأنفسهم} دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها، وهم يستطيعون وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلاّ الله أعجز. {وقال الذين كفروا}. قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث وأتباعه، والإفك أسوأ لكذب. {وأعانه عليه قوم آخرون}، قال مجاهد: قوم من اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه. وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول يتعهدهم. وقال ابن عباس: أشاروا إلى قوم عبيد كانوا للعرب من الفرس أبو فكيهة مولى الحضرميين. وجبر ويسار وعداس وغيرهم. وقال الضحاك: عنوا أبا فكيهة الرومي. وقال المبرد: عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلاّ من جنس الأول انتهى. وما قاله لا يلزم للاشتراك في جنس الإنسان، ولا يلزم الاشتراك في الوصف. ألا ترى إلى قوله {فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة} فقد اشتركتا في مطلق الفئة، واختلفتا في الوصف. والظاهر أن الضمير في {فقد جاؤوا} عائد على {الذين كفروا} والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلماً كما تقول: جئت المكان فيكون جاء متعدياً بنفسه قاله الكسائي، ويجوز أن يحذف الجار أي بظلم وزور ويصل الفعل بنفسه. وقال الزجاج: إذا جاء يستعمل بهذين الاستعمالين وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، والزور إن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه. وقيل: الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام الكفار، والضمير في {وقالوا} للكفار وتقدم الكلام على {أساطير الأولين} {اكتتبها} أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب الماء واصطبه أي سكبه وصبه. ويكون لفظ افتعل مشعراً بالتكلف والاعتمال أو بمعنى أمر أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك. {فهي تُملى عليه} أي تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على المتحفظ كصورة الإملاء على الكاتب. و {أساطير الأولين} خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه {أساطير} و{اكتتبها} خبر ثان، ويجوز أن يكون {أساطير} مبتدأ و{اكتتبها} الخبر. وقرأ الجمهور {اكتتبها} مبنياً للفاعل. وقراءة طلحة مبنياً للمفعول والمعنى {اكتتبها} كاتب له لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار {اكتتبها} إياه كاتب كقوله {واختارموسى قومه} ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار {اكتتبها} كما ترى انتهى. وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن {اكتتبها} له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام. وثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار {اكتتبها} إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا {اكتتبها} وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع عن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظاً وتقديراً والآخر مسرح لفظاً لا تقديراً. قال الشاعر وهو الفرزدق: ومنا الذي اختير الرجال سماحة *** وجوداً إذا هب الرياح الزعازع ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال. والظاهر أن قوله {اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} من تمام قول الكفار. وعن الحسن أنه قول الله سبحانه بكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في {اكتتبها} للاستفهام الذي في معنى الإنكار، ووجهه أن يكون نحو قوله: أفرح إن أرزأ الكرام وإن *** آخذ ذوداً شصايصاً نبلا وحق للحسن أن يقف على الأولين. والظهر تقييد الإملاء بوقت انتشار الناس وحين الإيواء إلى مساكنهم وهما البكرة والأصيل، أو يكونان عبارة عن الديمومة. وقرأ طلحة وعيسى فهي تتلى بالتاء بدل الميم. {قل أنزله الذي يعلم السر} أي كل سر خفي، ورد عليهم بهذا وهو وصفه تعالى بالعلم لأن هذا القرآن لم يكن ليصدر إلاّ من علام بكل المعلومات لما احتوى عليه من إعجاز التركيب الذي لا يمكن صدوره من أحد، ولو استعان بالعالم كلهم ولاشتماله على مصالح العالم وعلى أنواع العلوم واكتفى بعلم السر لأن ما سواه أولى أن يتعلق علمه به، أو {يعلم} ما تسرون من الكيد لرسوله مع علمكم ببطل ما تقولون فهو مجازيكم {إنه كان غفوراً رحيماً} إطماع في أنهم إذا تابوا غفر لهم ما فرط من كفرهم ورخمهم. أو {غفوراً رحيماً} في كونه أمهلكم ولم يعاجلكم على ما استوجبتموه من العقاب بسبب مكابرتكم، أو لما تقدم ما يدل على العقاب أعقبه بما يدل على القدرة عليه لأن المتصف بالغفران والرحمة قادر على أن يعاقب. {وقالوا} الضمير لكفار قريش، وكانوا قد جمعهم والرسول مجلس مشهور ذكره ابن إسحاق في السير فقال عتبة وغيره: إن كنت تحب الرئاسة ولَّيناك علينا أو المال جمعنا لك، فلما أبي عليهم اجتمعوا عليه فقالوا: مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق لالتماس الرزق سل ربك أن ينزل معك ملكاً ينذر معك، أو يلقي إليك كنزاً تنفق منه، أو يرد لك جبال مكة ذهباً وتزال الجبال، ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية. وكتب في المصحف لام الجر مفصولة من {هذا} و{هذا} استفهام يصحبه استهزاء أي {مال هذا} الذي يزعم أنه رسول أنكروا عليه ما هو عادة للرسل كما قال {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} أي حاله كحالنا أي كان يجب أن يكون مستغنياً عن الأكل والتعيش، ثم قالوا: وهب أنه بشر فهلا أرفد بملك ينذر معه أو يلقى إليه كنز من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم اقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق كالمياسير. وقرئ فتكون بالرفع حكاه أبو معاذ عطفاً على {أنزل} لأن {أنزل} في موضع رفع وهو ماض وقع موقع المضارع، أي هلا ينزل إليه ملك أو هو جواب التحضيض على إضمار هو، أي فهو يكون. وقراءة الجمهور بالنصب على جواب التحضيض. وقوله {أو يلقى} {أو} يكون عطف على {أنزل} أي لولا ينزل فيكون المطلوب أحد هذه الأمور أو مجموعها باعتبار اختلاف القائلين، ولا يجوز النصب في {أو يلقى} ولا في {أو تكون} عطفاً على {فيكون} لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب لقوله {لولا أنزل}. وقرأ قتادة والأعمش: أو يكون بالياء من تحت. وقرأ {يأكل} بياء الغيبة أي الرسول، وزيد بن عليّ وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش بنون الجمع أي يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم. {وقال الظالمون} أي للمؤمنين. قال الزمخشري: وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوه انتهى. وتركيبه وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم ليس تركيباً سائغاً بل التركيب العربي أن يقول: وأرادهم بأعيانهم بالظالمين {مسحوراً} غلب على عقله السحر وهذا أظهر، أو ذا سحر وهو الرئة، أو يسحر بالطعام وبالشراب أي يُغذي، أو أصيب سحره كما تقول رأسته أصبت رأسه. وقيل {مسحوراً} ساحراً عنوا به أنه بشر مثلهم لا ملك. وتقدم تفسيره في الإسراء وبهذين القولين قيل: والقائلون ذلك النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم. {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك وإلقاء كنز عليك وغير ذلك فبقوا متحيرين ضلالاً لا يجدون قولاً يستقرون عليه، أي فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقاً له. وقيل: {ضربوا لك الأمثال} بالمسحور والكاهن والشاعر وغيره {فضلوا} أخطؤوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم بضده من الضلال. وقيل {فلا يستطيعون سبيلاً} إلى حجة وبرهان على ما يقولون، فمرة يقولون هو بليغ فصيح يتقول القرآن من نفسه ويفتريه ومرة مجنون ومرة ساحر ومرة مسحور. وقال ابن عباس: شبه لك هؤلاء المشركون الأشباه بقولهم هو مسحور فضلوا بذلك عن قصد السبيل، فلا يجدون طريقاً إلى الحق الذي بعثك به. وقال مجاهد: لا يجدون مخرجاً يخرجهم عن الأمثال التي {ضربوا لك}. ومعناه أنهم {ضربوا لك} هذه ليتوصلوا بها إلى تكذيبك {فضلوا} عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. وقال أبو عبد الله الرازي؛ {انظر كيف} اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك، لم يجدوا إلى القدح سبيلاً إذا لطعن عليه إنما يكون فيما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول. وقال الفراء: لا يستطيعون في أمرك حيلة. وقال السدي {سبيلاً} إلى الطعن. ولما قال المشركون ما قالوا قيل: فيما يروى إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها، ولم يعط ذلك أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئاً، وإن شئت جمعناه لك في الآخرة فقال: يجمع لي ذلك في الآخرة فنزل {تبارك الذي}. وعن ابن عباس عنه عليه السلام قال: عرض على جبريل عليه السلام بطحاء مكة ذهباً فقلت: بل شبعة وثلاث جوعات، وذلك أكثر لذكري ومسألتي. قال الزمخشري في {تبارك} أي تكاثر خيراً {الذي إن شاء} وهب لك في الدنيا {خيراً} مما قالوا وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور انتهى. والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الجنة والكنز في الدنيا قاله مجاهد. ويبعد تأويل ابن عباس أنه إشارة إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاءه الله. وقيل: في الآخرة ودخلت إن على المشيئة تنبيهاً أنه لا ينال ذلك إلاّ برحمته وأنه معلق على محض مشيئته ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة. والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم. قال ابن عطية: ويرده قوله بعد ذلك {بل كذبوا بالساعة} انتهى. ولا يرده لأن المعنى به متمكن وهو عطف على ما حكى عنهم يقول: بل أتى بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة. وقرأ الجمهور {ويجعل} بالجزم قالوا عطفاً على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل ويجوز أن يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام {لك} لكن ذلك لا يعرف إلاّ من مذهب أبي عمرو والذي قرأ بالجزم من السبعة نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو، وليس من مذهب الثلاثة إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو من مذهب أبي عمر وكما ذكرنا. وقرأ مجاهد وابن عامر وابن كثير وحميد وأبو بكر ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع. قال ابن عطية: والاستئناف ووجهه العطف على المعنى في قوله {جعل} لأن جواب الشرط هو موضع استئناف. ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط؟ وقال الحوفي من رفع جعله مستأنفاً منقطعاً مما قبله انتهى. وقال أبو البقاء وبالرفع على الاستئناف. وقال الزمخشري: وقرئ {ويجعل} بالرفع عطفاً على {جعل} لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله: وإن أتاه خليل يوم مسألة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم انتهى. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً جاز في جوابه الرفع ليس مذهب سيبويه، إذ مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن هذا المضارع المرفوع النية به التقديم، ولكون الجواب محذوفاً لا يكون فعل الشرط إلاّ بصيغة الماضي. وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء، وذهب غير هؤلاء إلى أنه هو الجواب وليس على حذف الفاء ولا على التقديم، ولما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعل الجواب فلم تعمل فيه، وبقي مرفوعاً وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام. وقال بعض أصحابنا: هو ضرورة إذ لم يجئ إلاّ في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو. وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان {ويجعل} بالنصب على إضمار أن. وقال أبو الفتح هي على جواب الشرط بالواو، وهي قراءة ضعيفة انتهى. ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة: فإن يهلك أبو قابوس يهلك *** ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش *** أجب الظهر ليس له سنام يروى بجرم نأخذ ورفعه ونصبه. {بل كذبوا بالساعة} قال الكرماني: المعنى ما منعهم من الإيمان أكلك الطعام ولا مشيك في السوق، بل منعهم تكذيبهم بالساعة. وقيل: ليس ما تعلقوا به شبهة بل الحامل على تكذبيك تكذبيهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها. وقيل: يجوز أن يكون متصلاً بما يليه كأنه قال {بل كذبوا بالساعة} فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة انتهى. وبل لترك اللفظ المتقدم من غير إبطال لمعناه. وأخذ في لفظ آخر {واعتدنا} جعلناه معداً. {سعيراً} ناراً كبيرة الإيقاد. وعن الحسن: اسم من أسماء جهنم. {إذا رأتهم} قيل هو حقيقة وإن لجهنم عينين وروي في ذلك أثر فإن صح كان هو القول الصحيح. وإلاّ كان مجازاً، أي صارت منهم بقدر ما يرى الرائي من البعد كقولهم: دورهم تتراءى أي تتناظر وتتقابل، ومنه: لا تتراءى ناراهما. وقال قوم: النار اسم لحيوان ناري يتكلم ويرى ويسمع ويتغير ويزفر حكاه الكرماني، وقيل: هو على حذف مضاف أي رأتهم خزنتها من مكان بعيد، قيل: مسيرة خمسمائة عام. وقيل: مائة سنة. وقيل: سنة {سمعوا لها} صوت تغيظ لأن التغيظ لا يسمع، وإذا كان على حذف المضاف كان المعنى تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم. وقيل {سمعوا} صوت لهيبها واشتعالها وقيل هو مثل قول الشاعر: فيا ليت زوجك قد غدا *** متقلداً سيفاً ورمحاً وهذا مخرج على تخريجين أحدهما الحذف أي ومعتقلاً رمحاً. والثاني تضمين ضمن متقلداً معنى متسلحاً فكذلك الآية أي {سمعوا لها} ورأوا {تغيظاً وزفيراً} وعاد كل واحد إلى ما يناسبه. أو ضمن {سمعوا} معنى أدركوا فيشمل التغيظ والزفير. وانتصب {مكاناً} على الظرف أي في مكان ضيق. وعن ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزج في الرمح مقرنين قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمر وضيقاً. قال ابن عطية: وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالواو وهي قراءة شاذة، والوجه قراءة الناس ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير {ألقوا} بدل نكرة من معرفة ونصب على الحال، والظاهر دعاء الثبور وهي الهلاك فيقولون: واثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك. وقيل: المدعو محذوف تقديره دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبوراً. والثبور قال ابن عباس: هو الويل، وقال الضحاك: هو الهلاك ومنه قول ابن الزبعري: إذ يجاري الشيطان في سنن الغي *** ومن مال ميله مثبور {لا تدعوا اليوم} يقول لهم {لا تدعوا} أو هم أحق أن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قول، أي لا تقتصروا على حزن واحد بل احزنوا حزناً كثيراً وكثرته إما لديمومة العذاب فهو متجدداً دائماً، وإما لأنه أنواع وكل نوع يكون منه ثبور لشدته وفظاعته. وقرأ عمرو بن محمد {ثبوراً} بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الواو في المصادر قليل نحو البتول. وحكى عليّ بن عيسى: ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك. كأنهم دعوا بما فعلوا فقالوا: واصرفاه عن طاعة الله كما تقول: واندامتاه. روي أن أول ما ينادي بذلك إبليس يقول: واثبوراه حتى يكسى حلة من جهنم يضعها على جبينه ويسحبها من خلفه، ثم يتبعه في القول أتباعه فيقول لهم خزان جهنم {لا تدعوا} الآية. وقيل: نزلت في ابن خطل وأصحابه. والظاهر أن الإشارة بذلك إلى النار وأحوال أهلها. وقيل إلى الجنة والكنز في قولهم. وقيل إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة و{خير} هنا ليست تدل على الأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله: فشركما لخيركما الفداء *** وكقول العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة. وكقوله {السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ. قال ابن عطية: ومن حيث كان الكلام استفهاماً جاز فيه مجيء لفظه للتفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبراً لأن فيه مخالفة، وأما إذا كان استفهاماً فذلك سائغ انتهى. وما ذكره يخالفه قوله: فشركما لخيركما الفداء *** وقوله {السجن أحب إليّ} فإن هذا خبر. وكذلك قولهم: العسل أحلى من الخل إلاّ إن تقيد الخبر بأنه إذا كان واضحاً الحكم فيه للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد أيهما أفضل فإنه يجوز. وضمير {التي} محذوف أي وعدها وضمير {ما يشاؤون} كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤونه دليل على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون ألاّ في الجنة. وشمل قوله {جزاءً ومصيراً} الثواب ومحله كما قال {نعم الثواب وحسنت مرتفقاً} وفي ضده {بئس الشراب وساءت مرتفقاً} لأنه بطيب المكان يتضاعف النعيم، كما أنه برداءته يتضاعف العذاب {وعداً} أي موعوداً {مسؤولاً} سألته الملائكة في قولهم {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم} قاله محمد بن كعب والناس في قولهم {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} وقال معناه ابن عباس وابن زيد. وقال الفراء: {وعداً مسؤولاً} أي واجباً يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً، وإن لم يسأل. قيل: وما قاله الفراء محال انتهى. وليس محالاً إذ يكون المعنى أنه ينبغي أن يسأل هذا الوعد الذي وعدته أو بصدد أن يسأل أي من حقه أن يكون مسؤولاً. و{على ربك} أي بسبب الوعد صار لا بد منه. وقال الزمخشري: كان ذلك موعوداً واجباً على ربك انجازه حقيقاً أن يسأل. ويطلب لأنه جزاء وأجر مستحق، وهذا على مذهب المعتزلة.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} قرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص {يحشرهم} و{فيقول} بالياء فيهما. وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما. وقرأ باقي السبعة في نحشرهم بالنون وفي {فيقول} بالياء. وقرأ الأعرج {يحشرهم} بكسر الشين. قال صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي. وقال ابن عطية: وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين المتعدي أقيس من يفعل بضم العين انتهى. وهذا ليس كما ذكر ابل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقى عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيراً، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلاّ فالخيار حتى أن بعض أصحابنا خير فيهما سمعاً للكلمة أو لم يسمعا. {وما يعبدون} قال الضحاك وعكرمة: الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على هذه المقالة من الجواب. وقال الكلبي: يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها. وقال الجمهور: من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو الأظهر كقوله {أأنتم أضللتم} وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلاّ من العقلاء، وجاء ما يشبه ذلك منصوصاً في قوله {ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} وسؤاله تعالى وهو عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفاً للمكلفين. وجاء الاستفهام مقدماً فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب {أأضللتم} ولا أضلوا لأن كلاً من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله. وتقدم نظير هذا في {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم} وقال الزمخشري: وفيه كسر بيِّن لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه {أأنتم أضللتم} أم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيهاً منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها. وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله {يضل من يشاء} ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتم انتهى. وهو على طريقة المعتزلة. والمعنى {أأنتم} أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق، أم {ضلوا} بأنفسهم عنه. ضل أصله أن يتعدى بعن كقوله {من يضل عن سبيله} ثم أتسع فحذف، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم يحذف ويضل مطاوع أضل كما تقول: أقعدته فقعد. و{سبحانك} تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون، أن يكون أحد منهم نداً وهو المنزه عن الند والنظير. وقال الزمخشري: {سبحانك} تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى. وقرأ علقمة ما ينبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم أخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه. وقرأ أبو عيسى الأسود القاري {يُنْبَغي لنا} مبنياً للمفعول. وقال ابن خالويه: زعم سيبويه أن ينبغي لغة. وقرأ الجمهور: {أن نتخذ} مبنياً للفاعل و{من أولياء} مفعول على زيادة {من} وحسن زيادتها انسحاب النفي على {نتخذ} لأنه معمول لينبغي. وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله. ونظيره {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير} أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. وقال أبو مسلم {ما كان ينبغي لنا} أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى الكفار قال {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن يُتخذ مبنياً للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله {أم اتخذوا آلهة من الأرض} وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} فقيل: هذه القراءة منه فالأول الضمير في {نتخذ} والثاني {من أولياء} و{من} للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري. وقال ابن عطية: ويضعف هذه القراءة دخول {من} في قوله {من أولياء} اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره. وقال أبو الفتح {من أولياء} في موضع الحال ودخلت {من} زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول: ما اتخذت زيداً من وكيل. وقيل {من أولياء} هو الثاني على زيادة {من} وهذا لا يجوز عند أكثر النحويين إنما يجوز دخولها زائدة على المفعول الأول بشرطه. وقرأ الحجاج أن نتخذ من دونك أولياء فبلغ عاصماً فقال: مقت المخدّج أو ما علم أن فيها {من} ولما تضمن قولهم {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} أنّا لم نضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك بلكن، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم وأطلت أعمارهم وكان يجب عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل، فكان ذلك سبباً للإعراض عن ذكر الله. قيل: ولكن متعتهم كالرمز إلى ما صرح به موسى من قوله {إن هي إلاّ فتنتك} أي أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنيا حتى صاروا غرقى في بحر الشهوات فكان صارفاً لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك و{الذكر} ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو القرآن. والبور: قيل مصدر يوصف به الواحد والجمع. وقيل: جمع بائر كعائذ وعوذ. قيل: معناه هلكى. وقيل: فسدى وهي لغة الأزد يقولون: أمر بائر أي فاسد، وبارت البضاعة: فسدت. وقال الحسن: لا خير فيهم من قولهم أرض بور أي معطلة لا نبات فيها. وقيل {بوراً} عمياً عن الحق. {فقد كذبوكم} هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة، فالاحتجاج والإلزام حسنة رابعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وهو على إضمار القول كقوله {يا أهل الكتاب} إلى قوله {فقد جاءكم} أي فقلنا قد جاءكم. وقول الشاعر: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا أي فقلنا قد جئنا وكذلك هذا أي فقلنا قد كذبوكم، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب للكفار أي قد كذبتكم معبوداتكم من الأصنام بقولهم {ما كان ينبغي لنا} وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير عليهم السلام، وهو الظاهر لتناسق الخطاب مع قوله {أأنتم أضللتم} أي كذبكم المعبودون {بما تقولون} أي بقولهم أنكم أضللتموهم، وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون الله. ومن قرأ {بما تقولون} بتاء الخطاب فالمعنى فيما تقولون أي {سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء}. وقيل: الخطاب للكفار العابدين أي كذبكم المعبودون بما تقولون من الجواب. {سبحانك ما كان ينبغي لنا} أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة التوبيخ والتقريع. وقيل: هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي قد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع. وقرأ الجمهور {بما تقولون} بالتاء من فوق. وأبو حيوة وابن الصلت عن قنبل بالياء من تحت. وقرأ حفص وأبو حيوة والأعمش وطلحة {فما تستطيعون} بتاء الخطاب، ويؤيد هذه القراءة أن الخطاب في {كذبوكم} للكفار العابدين. وذكر عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرآ بما يقولون فما يستطيعون بالياء فيهما أي هم. {صرفاً} أي صرف العذاب أو توبة أو حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال، هذا إن كان الخطاب في {كذبوكم} للكفار فالتاء جارية على ذلك، والياء التفات وإن كان للمعبودين فالتاء التفات. والياء جارية على ضمير {كذبوكم} المرفوع وإن كان الخطاب للمؤمنين أمّة الرسول عليه السلام في قوله {فقد كذبوكم} فالمعنى أنهم شديدو الشكيمة في التكذيب {فما تستطيعون} أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك. وبالياء فما يستطيعون {صرفاً} لأنفسهم عما هم عليه. أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه. {ولا نصراً} لأنفسهم من البلاء الذي استوجبوه بتكذبيهم. {ومن يظلم منكم} الظاهر أنه عام. وقيل: خطاب للمؤمنين. وقيل: خطاب للكافرين. والظلم هنا الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن جريج، ويحتمل دخول المعاصي غير الشرك في الظلم. وقال الزمخشري: العذاب الكبير لاحق لكل من ظلم والكافر ظالم لقوله {إن الشرك لظلم عظيم} والفاسق ظالم لقوله {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} انتهى وفيه دسيسة الاعتزال. وقرئ: يذقه بياء الغيبة أي الله وهو الظاهر. وقيل: هو أي الظلم وهو المصدر المفهوم من قوله {يظلم} أي يذقه الظلم. ولما تقدم الطعن على الرسول بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أنها عادة مستمرة في كل رسالة ومفعول {أرسلنا} عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحداً. وقدره ابن عطية رجالاً أو رسلاً. وعاد الضمير في {إنهم} على ذلك المحذوف كقوله {وما منا إلاّ له مقام} أي وما منا أحد والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله {إلاّ إنهم} كأنه قال إلاّ آكلين وماشين. وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلاّ أي إلاّ من. {إنهم} والضمير عائد على {من} على معناها فيكون استثناء مفرغاً وقيل: إنهم قبله قول محذوف أي {إلاّ} قيل {إنهم} وهذان القولان مرجوحان في العربية. وقال ابن الأنباري: التقدير إلاّ وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار. قد ردّ على من قال إن ما بعد إلاّ قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضاً أبو البقاء قال: وقيل لو لم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ المعنى إلاّ وهم يأكلون. وقرئ {أنهم} بالفتح على زيادة اللام وإن مصدرية التقدير إلاّ أنهم يأكلون أي ما جعلناهم رسلاً إلى الناس إلاّ لكونهم مثلهم. وقرأ الجمهور: {ويمشون} مضارع مشى خفيفاً. وقرأ عليّ وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله {يمشّون} مشدداً مبنياً للمفعول، أي يمشيهم حوائجهم والناس. قال الزمخشري: ولو قريء {يمشون} لكان أوجَه لولا الرواية انتهى. وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشدد مبنياً للفاعل، وهي بمعنى {يمشون} قراءة الجمهور. قال الشاعر: ومشى بأعطان المباءة وابتغى *** قلائص منها صعبة وركوب {وجعلنا بعضكم}. قال ابن عطية: هو عام للمؤمن والكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل. وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى. وروي قريب من هذه عن ابن عباس والحسن. قال ابن عطية: والتوقيف بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم وقفهم. هل تصبرون أم لا؟ ثم أعرب قوله {وكان ربك بصيراً} عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين. وقال الزمخشري: {فتنة} أي محنة وبلاء، وهذا تصبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبعدوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعدما احتج عليهم بسائر الرسل يقول: جرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً} الآية وموقع {أتصبرون} بعد ذكر الفتنة موقع {أيكم} بعد الابتلاء في قوله {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} {بصيراً} عالماً بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة، وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية عما عيروه به من الفقر حين قالوا {أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة} وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي. وقيل: كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان فرفعوا علينا إدلالاً بالسابقة فهو افتتان بعضهم ببعض انتهى. وفيه تكثير وهذا القول الأخير قول الكلبي والفراء والزجاج. والأولى أن قوله {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} يشمل معاني هذه الألفاظ كلها لأن بين الجميع قدراً مشتركاً. وقيل: في قوله {أتصبرون} أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا، والظاهر حمل الرجاء على المشهور من استعماله والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير وثوابنا على الطاعة لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به. وقال أبو عبيدة وقوم: معناه لا يخافون. وقال الفراء: لا يرجون نشوراً لا يخافون، وهذه الكلمة تهامية وهي أيضاً من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف. فتقول: فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف ربه، ومن ذلك {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} أي لا تخافون لله عظمة وإذا قالوا: فلان يرجو ربه فهذا معنى الرجاء لا على الخوف. وقال الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وحالفها في بيت نوب عوامل وقال آخر: لا ترجى حين تلاقي الذائذا *** أسبعة لاقت معاً أم واحدا انتهى. ومن لازم الرجاء للثواب الخوف من العقاب، ومن كان مكذباً بالبعث لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً ومن تأول لم يرج لسعها على معنى لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها. فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله فتأويله ممكن لكن الفراء وغيره نقلوا ذلك لغة لهذيل في النفي والشاعر هذلي، فينبغي أن لا يتكلف للتأويل وأن يحمل على لغته. {لولا أنزل علينا الملائكة} فتخبرنا أنك رسول حقاً {أو نرى ربنا} فيخبرنا بذلك قاله ابن جريج وغيره. وهذه كما قالت اليهود {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وكقولهم أعني المشركين {أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} وهذا كله في سبيل التعنت، وإلاّ فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا. {لقد استكبروا} أي تكبروا {في أنفسهم} أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله، وهم ليسوا بأهل لها. والمعنى أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهم من الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم كما قال {إن في صدورهم إلاّ كبر ما هم ببالغيه} واللام في لقد جواب قسم محذوف و{عتوا} تجاوزوا الحد في الظلم ووصفه بكبير مبالغة في إفراطه أي لم يجسروا على هذا القول العظيم إلاّ لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو. وجاء هنا {عتواً} على الأصل وفي مريم {عتياً} على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل. قال ابن عباس {عتوا} كفروا أشد الكفر وأفحشوا. وقال عكرمة: تجبروا. وقال ابن سلام: عصوا. وقال ابن عيسى: أسرفوا. قال الزمخشري: هذه الجملة في حسن استيفائها غاية في أسلوبها. ونحوه قول القائل: وجارة جساس أبأنا بنابها *** كليباً غلت ناب كليب بواؤها في نحو هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى أن المعنى ما أشدّ استكبارهم وما أكثر عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب. {يوم يرون الملائكة} {يوم} منصوب باذكر وهو أقرب أو بفعل يدل عليه {لا بشرى} أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه {لا بشرى} لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس، ودخول {لا} على {بشرى} لانتفاء أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة لقوله بعد {وقدمن إلى ما عملوا} وعن ابن عباس: عند الموت والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا نزول الملائكة لا يعرفون ما يكون لهم إذا رأوهم من الشر وانتفاء البشارة وحصول الخسار والمكروه. واحتمل {بشرى} أن يكون مبنياً مع {لا} واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنياً مع {لا} احتمل أن يكون الخبر {يومئذ وللمجرمين} خبر بعد خبر أو نعت لبشرى، أو متعلق بما تعلق به الخبر، وأن يكون {يومئذ} صفة لبشرى، والخبر {للمجرمين} ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس {لا} أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع {لا} وما بني معها؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون {يومئذ} معمولاً لبشرى، وأن يكون صفة، والخبر من الخبر. وأجاز أن يكون {يومئذ} و{للمجرمين} خبر وجاز أن يكون {يومئذ} خبراً و{للمجرمين} صفة، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس لا بإجماع. وقال الزمخشري: و{يومئذ} للتكرير وتبعه أبو البقاء، ولا يجوز أن يكون تكريراً سواء أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البلد، لأن {يوم} منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى وما بعد {لا} العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبل إلاّ والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم. قيل: ويجوز أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير، والظاهر أن الضمير في {ويقولون} عائد على القائلين لأن المحدث عنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة، ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلاّ بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ونزول الشدة وقال معناه مجاهد قال {حجراً} عواذاً يستعيذون من الملائكة. وقال مجاهد وابن جريج: كانت العرب إذا كرهت شيئاً قالوا حجراً. وقال أبو عبيدة: هاتان اللفظتان عوذة للعرب يقولهما من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة انتهى. ومنه قول المتلمس: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها *** حجر حرام ألا تلك الدهاليس أي هذا الذي حننت إليه هو ممنوع، وذكر سيبويه {حجراً} في المصادر المنصوبة غير المتصرفة. وقال بعض الرجاز: قالت وفيها حيرة وذعر *** عوذ يرى منكم وحجر وأنه واجب إضمار ناصبها. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجراً وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه لا يلحقه. وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك {حجراً} بضم الحاء. وقيل: الضمير في {ويقولون} عائد على الملائكة أي تقول الملائكة للمجرمين {حجراً محجوراً} عليكم البشرى و{محجوراً} صفة يؤكد معنى {حجراً} كما قالوا: موت مائت، وذيل ذائل، والقدوم الحقيقي مستحيل في حق الله تعالى فهو عبارة عن حكمه بذلك وإنفاذه. قيل: أو على حذف مضاف أي قدمت ملائكتنا وأسند ذلك إليه لأنه عن أمره، وحسنت لفظة {قدمنا} لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب، فمثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف، ومنّ علي أسير. وغير ذلك من مكارمهم بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصد إلى ما تحت أيديهم فمزقها بحيث لم يترك لها أثراً، وفي أمثالهم أقل من الهباء و{منثوراً} صفة للهباء شبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به، ثم وصفه بمنثوراً لأن الهباء تراه منتظماً مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب. وقال الزمخشري: أو جعله يعني {منثوراً} مفعولاً ثالثاً لجعلناه أي {فجعلناه} جامعاً لحقارة الهباء والتناثر. كقوله {كونوا قردة خاسئين} أي جامعين للمسخ والخسء انتهى. وخالف ابن درستويه فخالف النحويين في منعه أن يكون لكان خبران وأزيد. وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث. وقال ابن عباس: الهباء المنثور ما تسفي به الرياح وتبثه. وعنه أيضاً: الهباء الماء المهراق والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات. والمقيل المكان الذي يأوون إليه في الاسترواح إلى الأزواج والتمتع، ولا نوم في الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور {مقيلاً} على طريق التشبيه إذ المكان المتخير للقيلولة يكون أطيب المواضع. وفي لفظ {أحسن} رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور إلى غير ذلك من التحاسين. و{خير} قيل: ليست على بابها من استعمالها دلالة على الأفضلية فيلزم من ذلك خير في مستقر أهل النار، ويمكن إبقاؤها على بابها ويكون التفضيل وقع بين المستقرين والمقيلين باعتبار الزمان الواقع ذلك فيه. فالمعنى {خير مستقراً} في الآخرة من الكفار المترفين في الدنيا {وأحسن مقيلاً} في الآخرة من أولئك في الدنيا. وقيل: {خير مستقراً} منهم لو كان لهم مستقر، فيكون التقدير وجود مستقر لهم فيه خير. وعن ابن مسعود وابن عباس والنخعي وابن جبير وابن جريج ومقاتل: إن الحساب يكمل في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)} قرأ الحرميان وابن عامر {تشقق} بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا. وفي ق وباقي السبعة بحذف تلك التاء ويعني يوم القيامة كقوله {السماء منفطر به} وقرأ الجمهور: {ونُزِّل} ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول، وابن مسعود وأبو رجاء {ونزل} ماضياً مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً وأنزل مبنياً للفاعل وجاء مصدره {تنزيلاً} وقياسه إنزالاً إلاّ أنه لما كان معنى أنزل ونزَّل واحداً جاز مجيء مصدر أحدما للآخر كما قال الشاعر: حتى تطوّيت انطواء الخصب *** كأنه قال: حتى انطويت. وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضياً رباعياً مبنياً للمفعول مضارعه ينزل. وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو {ونزل} ثلاثياً مخففاً مبنياً للفاعل، وهارون عن أبي عمرو وتنزل بالتاء من فوق مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو {ونزل الملائكة} بضم النون وشد الزاي، أسقط النون من وننزل وفي بعض المصاحف وننزل بالنون مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل. ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده قال: وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو. وعن أبيّ أيضاً وتنزلت. وقرأ أُبيّ ونزلت ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول بتاء التأنيث. وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو: {ونُزَل} مخففاً مبنياً للمفعول {الملائكة} رفعاً، فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتقديره: ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى {الملائكة} بمعنى نزول نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب اللازم للمفعول به لأن الفعل يدل على مصدره انتهى. وقال أبو الفتح: وهذا غير معروف لأن {نزل} لا يتعدى إلى مفعول فيبني هنا للملائكة، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلاّ أزكمه الله وأجنه. وهذا باب سماع لا قياس انتهى. فهذه إحدى عشرة قراءة. والظاهر أن الغمام هو السحاب المعهود. وقيل هو الله في قوله {في ظلل من الغمام} وقال ابن جريج: الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة زعموا. وقال الحسن: سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا. وقيل: غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم، والظاهر أن {السماء} هي المظلة لنا. وقيل: تتشقق سماء سماء قاله مقاتل. والباء باء الحال أي متغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها ونظيره قوله {السماء منفطر به} أو بمعنى عن أقوال ثلاثة. والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو الشاق له. {ونزل الملائكة} أي إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب. و{الحق} صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل، ولا يبقى إلاّ ملكه تعالى وخبر {الملك} {يومئذ}. و{الرحمن} متعلق بالحق أو للبيان أعني {للرحمن}. وقيل: الخبر {للرحمن} و{يومئذ} معمول للملك. وقيل: الخبر {الحق} و{للرحمن} متعلق به أو للبيان، وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف. ودل قوله {على الكافرين} على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا والظاهر عموم الظالم إذ اللام فيه للجنس قاله مجاهد وأبو رجاء، وقالا: فلان هو كناية عن الشيطان. وقال ابن عباس وجماعة: {الظالم} هنا عقبة بن أبي معيط إذ كان جنح إلى الإسلام وأُبيّ بن خلف هو المكني عنه بفلان، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام فقبل منه. وعن ابن عباس أيضاً. عكس هذا القول. قيل وسبب نزولها هو عقبة وأُبي. وقيل: كان عقبة خليلاً لأمية فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً فكفر وارتد لرضا أمية فنزلت قاله الشعبي. وذكر من إساءة عقبة على الرسول ما كان سبب أن قال له الرسول عليه السلام: «لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فقتل عقبة يوم بدر صبراً أمر علياً فضرب عنقه، وقتل أبيّ بن خلف يوم أحد في المبارزة. والمقصود ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالم وتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به يعبر عنه بفلان. والظاهر أن {الظالم} {يعض على يديه} فعل النادم المتفجع. وقال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت، ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. وقيل: هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندماً وقال الشاعر: لطمت خدها بحمر لطاف *** نلن منها عذاب بيض عذاب فتشكى العناب نور إقاح *** واشتكى الورد ناضر العناب وفي المثل: يأكل يديه ندماً ويسيل دمعه دماً. وقال الزمخشري: عض الأنامل واليدين والسقوط في اليد وأكل البنان وحرق الأسنان والإرم وفروعها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفها فتذكر الرادفة. ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند لفظ المكنى عنه انتهى. وقال الشاعر في حرق الناب: أبى الضيم والنعمان يحرق نابه *** عليه فأفضى والسيوف معاقله {يقول} في موضع الحال أي قائلاً {يا ليتني} فان كانت اللام للعهد فالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلك طريق الحق، وإن كانت اللام للجنس فالمعنى أنه تمنى. سلوك طريق الرسول وهو الإيمان، ويكون الرسول للجنس لأن كل ظالم قد كلف اتّباع ما جاء به رسول من الله إلى أن جاءت الملة المحمدية فنسخت جميع الملل، فلا يقبل بعد مجيئه دين غير الذي جاء به. ثم ينادي بالويل والحسرة يقول {يا ويلتي} أي يا هلكاه كقوله {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} وقرأ الحسن وابن قطيب {يا ليتني} بكسر التاء والياء ياء الإضافة وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالي فهذا أوانك. وقرأت فرقة بالإمالة. قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فراراً من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولاً. وفلان كناية عن العلم وهو متصرف. وقل كناية عن نكرة الإنسان نحو: يا رجل وهو مختص بالنداء، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخماً من فلان خلافاً للفراء. ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان. وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب. و {الذكر} ذكر الله أو القرآن أو الموعظة، والظاهر حمل الشيطان على ظاهره لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطاناً لأنه يضل كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام الظالم، ويحتمل أن تكون إخباراً من كلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ. وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليس الصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير. والظاهر أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه وإخباره بهجر قومه قريش القرآن هو مما جرى له في الدنيا بدليل إقباله عليه مسلياً مؤانساً بقوله {وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً من المجرمين} وأنه هو الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه. وقالت فرقة منهم أبو مسلم إنه قوله عليه السلام في الآخرة كقوله {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} والظاهر أن {مهجوراً} بمعنى متروكاً من الإيمان به مبعداً مقصياً من الهجر بفتح الهاء. وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه. وقيل: من الهجر والتقدير {مهجوراً} فيه بمعنى أنه باطل. وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا فيه كقوله {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول، والمعنى اتخذوه هجراً والعدو يجوز أن يكون واحداً وجمعاً انتهى. وانتصب {هادياً} و{نصيراً} على الحال أو على التمييز. وقالوا أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق. قال الزمخشري: {نزل} ههنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلاّ كان متدافعاً انتهى. وإنما قال أن {نزل} بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو. وقوله {جملة واحدة} وقد قررنا أنا {نزل} لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة. وقد بيّنا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا: لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل. وقيل: قائلو ذلك اليهود وهذا قول لا طائل تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقاً بل الإعجاز في نزوله مفرقاً أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه، فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا والمشار إليه غير مذكور. فقيل: هو من كلام الكفار وأشاروا إلى التوراة والإنجيل أي تنزيلاً مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ويبقى {لنثبت به فؤادك} تعليلاً لمحذوف أي فرقناه في أوقات {لنثبت به فؤادك}. وقيل: هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم، ولما تضمن كلامهم معنى لمَ أُنْزِلَ مفرقاً أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي {كذلك} أنزل مفرقاً. قال الزمخشري: والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء، وجزأ عقيب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليه السلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى عليهم السلام حيث كان أمياً لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة. وقيل: في ثلاث وعشرين سنة وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرقاً انتهى. واللام في {لنثبت به} لام العلة. وقال أبو حاتم: هي لام القسم والتقدير والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى. وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح. وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله {ورتلناه} أي فصلناه. وقيل: بيناه. وقيل: فسرناه. {ولا يأتونك بمثل} يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بياناً وتفصيلاً. وقال الزمخشري: {ولا يأتونك بمثل} بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل معناه كذا أو {ولا يأتونك} بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذه صفتك وحالك نحو إن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليك القرآن جملة إلاّ أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته انتهى. وقيل: {ولا يأتونك} بشبهة في إبطال أمرك إلاّ جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ، والمفضل عليه محذوف أي {وأحسن تفسيراً} من مثلهم ومثلهم قولهم {لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة}. و {الذين يحشرون}. قال الكرماني: متصل بقوله {أصحاب الجنة يومئذ} الآية. قيل: ويجوز أن يكون متصلاً بقوله {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} انتهى. والذي يظهر أنهم لم اعترضوا في حديث القرآن وإنزاله مفرقاً كان في ضمن كلامهم أنهم ذوو رشد وخير، وأنهم على طريق مستقيم ولذلك اعترضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم {شر مكاناً وأضل سبيلاً} والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه. وفي الحديث «إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم» وهذا قول الجمهور. وقيل: هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي. وقيل: هو من قول العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب. ويقال: مضى على وجهه إذا أسرع متوجهاً لقصده و{شر} و{أضل} ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل. وقوله {شر مكاناً} أي مستقراً وهو مقابل لقوله {خير مستقراً} ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر. وأعربوا {الذين} مبتدأ والجملة من {أولئك} في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون {الذين} خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعاداً لهم وتسميعاً بما يؤول إليه حالهم هم {الذين يحشرون} ثم استأنف إخباراً أخبر عنهم فقال {أولئك شر مكاناً}
|